الحمد لله جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خُبرًا، وأسبل على الخلائق رعايتَه سِترًا، أحمده تعالى على نعمائه شكرًا، وأُسلِّمُ لقضائه وقدره صبْرًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلَق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصِهرًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله إلى البشرية عُذْرًا ونُذْرًا، فدعا إلى الله سرًّا وجهرًا، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأكرم بهم في نصرة الدين نصرًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وأَدِم لهم أجرًا، أما بعد:
أحبتي الكرام:
اتقوا الله فإن تقواه أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مِضْمَارُ سِباق، سبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
أحبتي الكرام:
في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيطِ عند الميقات، وهلتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، خجلًا من الهفوات والعثرات، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُّ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطوافِ بالكعبة المشرفة، والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع الرَّحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فإلى كل من حج البيت العتيق، إليك هذه الوقفات من قلب محبٍّ لك شفيق، فأنت والله أعز عليَّ من أخي الشقيق، فتقبلها مني واقبلها من فؤاد تقطع قلبه، وسالت بالعبرة عينه، وإلى أولى هذه الوقفات...
الوقفة الأولى:
يا من حج البيت العتيق، وجئت من كل فج عميق، ولبيت من كل طرفٍ سحيق، ها أنت وقد كَمُلَ حجك، وتمَّ تفثُك بعد أن وقفت على هاتيك المشاعر، وأديت تلك الشعائر، ها أنت تتهيأ للرجوع إلى ديارك، احذر كل الحذر من العودة إلى التلوثِ بالمحرمات، والتلفُّع بالمَعَرَّات، والْتِحَافِ المسبَّات {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]. فإياك إياك أن تهدم ما بنيت، وتُبدد ما جمعت، وتنقض ما أحكمت.
الوقفة الثانية:
يا من حج بيت الله الحرام، اشكر الله على ما أولاك، واحمده على ما حباك وأعطاك، تتابع عليك بِرُّه، واتصل خيرُه، وعمَّ عطاؤه، وكمُلت فواضله، وتمت نوافله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]. فظُن بربك كلَّ جميل، وأمِّل كلَ خيرٍ جزيل، وقوِّ رجاءك بالله في قبولِ حجِّك، ومحْوِ ما سلف من ذنوبك، فقد جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قال الله تعالى: أنا عند ظنِ عبدي بي"[1]. فهنيئًا لك حجُّك وعبادتُك واجتهادُك.
الوقفة الثالثة:
يا من حج البيت الكريم، لقد فتحت في حياتك صفحةً بيضاء نقية، ولبست بعد حجك ثيابًا طاهرة نقية، فحذار حذار من العودة إلى الأفعال المخزية، والمسالك المردية، والأعمال الشائنة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة! وإن من قبول العمل الصالح إتباعه بعمل صالح.
الوقفة الرابعة:
إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة. سُئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ قال: أن تعودَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. فليكن حجُّك حاجزًا لك عن مواقع الهلكة، ومانعًا لك من المزالقِ المُتلفة، وباعثًا لك إلى المزيد من الخيرات وفعلِ الصالحات.
واعلم أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلولُ الأجل، فما أجملَ أن تعود بعد الحج إلى أهلك ووطنك بالخُلُقِ الأكمل، والعقلِ الأرزن، والوقارِ الأرْصَن، والعِرض الأصون، والشِيَمِ المرْضية، والسجايا الكريمة! ما أجملَ أن تعود حَسَنَ المعاملة لقِعادك، كريمَ المعاشرةِ لأولادك، طاهرَ الفؤاد، ناهجًا منهج الحق والعدل والسداد، المُضْمَر منه خيرٌ من المظهر، والخافي أجملُ من البادي! فإن من يعودُ بعد الحج بهذه الصفات الجميلة والسمات الجليلة، فهو حقًّا من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره.
الوقفة الخامسة:
الحج بكل مناسكِه وأنساكه يعرِّفك بالله، يذكرك بحقوقه وخصائص ألوهيته جلَّ في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، يعرفك ويذكرك بأن الله هو الأحدُ الذي تُسلم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمدُ الذي له وحده تَصْمُد الخلائق في طلب الحاجات، فكيف يهون عليك بعد ذلك أن تصرف حقًّا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره؟! فأي حجٍّ لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشرك الصريح والعمل القبيح؟! وأي حج لمن حج ثم يأتي المشعوذين والسحرة ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة، ويتبرك بالأشجار، ويتمسح بالأحجار، ويعلق التمائمَ والحروز؟!..
أين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلًا للربا والرُّشا، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! فيا من امتنعتَ عن محظورات الإحرامِ أثناء حج بيت الله الحرام، إن هناكَ محظورات على الدوام، وطولَ الدهر والأعوام، فاحذر إتيانها وقربانها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
الوقفة السادسة:
من لبى لله في الحج مستجيبًا لندائه، كيف يلبي بعد ذلك لدعوةٍ أو مبدأ أو مذهب أو نداء يُنَاهِض دين الله الذي لا يُقبل من أحدٍ دين سواه؟! من لبَّى لله في الحج كيف يَتحاكم بعد ذلك إلى غير شريعته، أو ينقادَ لغير حكمه، أو يرضى بغير رسالته؟! من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت رِكائبُه، وحيثُ استقلَّت مضاربه، لا يتردد في ذلك ولا يتخير، ولا يتمَنَّعُ ولا يضجر، وإنما يَذلُّ ويخضع، ويطيع ويسمع.
الوقفة السابعة:
يا من غابت عنه شمسُ هذه الأيامِ ولم يَقْضِها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبتْ عليه مواسمُ الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافلَ الحجاج والمعتمرين والعابدين؟! أما رأيت تجرُّد المحرمين وأكفَّ الراغبين ودموعَ التائبين؟ أما سمعتَ صوت الملبين المكبرين المهللين؟ فما لك قد مرَّت عليك خيرُ أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُدَّ عليك الوَثاق؟ يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غدًا. يا من أصبح قلبه في الهوى مُبددًا، وأمسى بالجهل مُجنَّدًا، وبالشهواتِ محبوسًا مقيدًا، تذكر ليلةً تبيتُ في القبر منفردًا، وبادرِ بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار ليتوبَ مُسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار.
الوقفة الثامنة:
وأنت أنت يا من تقلبتَ في أنواع العبادة، الزم طريقَ الاستقامة، وداوم العمل فلستَ بدار إقامة، واحذر الإِدْلاَءَ والرياء فرُبَّ عملٍ صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، يقول بعض السلف: من سره أن يَكْمُلَ له عمله فليُحسن نيته.
وكن على خوف ووجل من عدم قبول العمل؛ فعن عائشة-رضي الله عنها- زوج النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]. فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تُقبل منهم {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]"[2].
الوقفة التاسعة:
يا من قصد البيت الحرام، ليكن حجك أول فتوحك، وتباشيرَ فجرك، وإشراقَ صبحك، وبدايةَ مولدك، وعنوانَ صدق إرادتك، تقبل الله حجك وسعيك، وأعاد الله علينا وعليك هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد. اللهم تقبل من الحجاج حجهم، اللهم تقبل من الحجاج حجهم وسعيهم، اللهم اجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا.
اللهم تقبل مساعيهم وزكها، وارفع درجاتهم وأعلها، وبلِّغهم من الآمال منتهاها، ومن الخيرات أقصاها، اللهم اجعل سفرهم سعيدًا، وعودهم إلى بلادهم حميدًا، اللهم هوِّن عليهم الأسفار، وأمنهم من جميع الأخطار، اللهم احفظهم من كل ما يؤذيهم، وأبعد عنهم كل ما يضنيهم. اللهم واجعل دربهم درب السلامة والأمان، والراحة والاطمئنان، اللهم وأعدهم إلى أوطانهم وأهليهم وذويهم ومحبيهم سالمين غانمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه الشيخان.
[2] أخرجه الترمذي.
الكاتب: سلمان بن يحيى المالكي
المصدر: موقع قصة الإسلام